الشرق-سعيد حاجي
كل من يتابع بعض البرامج التحسيسية التي تطلقها القنوات الرسمية الفرنسية و فعاليات المجتمع المدني حول توزيع ملايين الكتب بالمجان على أبناء الجالية العربية المقيمة هناك كل سنة ، وهذه المبادرة التي تدخل ضمن مشروع إتمام دعم القراءة التي أطلقتها فرنسا منذ سنوات في جميع أنحاء البلاد، سيكتشف هول المفارقة واتساع الهوة الفكرية بيننا كمغاربة 'مفرنسين' بمناسبة أو بدونها، وبينهم كفرنسيين طبعا.
وربما الأهم من ذلك انه سيكتشف أن فرنسيا واحدا يقرأ حوالي 10 كتب في الأسبوع أي بمعدل كتاب ونصف في اليوم حسب - دراسة أجرتها مجلة فرنسية خاصة- ومع ذلك نجد أن الحكومة الفرنسية ومجتمعها المدني يضعون خططا جديدة لتشجيع ممارسة القراءة في البلاد. في المقابل سنجد نحن في بلادنا أننا قوم لا نقرأ إلا من رحم ربي طبعا، وإذا قرأنا فإننا نقرأ كتبا من قبيل لا شيء ومع ذلك فلا احد يتطرق لمثل هذه المواضيع الخطيرة وطرحها في البرلمان أو في ندوة من الندوات لمناقشتها.
وحتى نقرب الصورة اكثر دعونا ننطلق من مدينة تاوريرت لنقيسها على باقي المدن ونأخذ ذلك كنموذج مبسط نظرا للهوة الفكرية السحيقة التي تنتظرنا والتي تنذر بكارثة معرفية حقيقية نحن على مشارفها مستقبلا.
فالأكيد أننا عندما تحدثنا اكثر من مرة عن مشروع دعم القراءة في المدينة، وقلنا إن هذا المجال يجب أن يحظى بالأولوية فلم يكن ذلك من باب الترف الفكري أو الإعلامي. وإنما لوعينا التام بأن نهضة المدينة ونهضة الوطن وتقدمه الاقتصادي والسياسي يمرّان حتما عبر القضاء على آفة العزوف عن القراءة.
لأنه ومن خلال معاينة بسيطة للحضور المخجل للساكنة في مناسبات 'الكتاب' كالذي ينظم في مخلف المدن كل سنة، أو من خلال إحصاء الحضور اليومي للمهتمّين بالخزانات العامة يتضح أن مستويات الاهتمام بالكتاب وبقراءته على وجه التحديد وصل إلى حدود منخفضة تنذر بكارثة معرفية حقيقية.
ورغم تراجع مستويات القراءة سنة بعد أخرى فإن المسؤولين عن هذا القطاع لا يتوفرون إلى حد الآن على خطة واضحة لتشجيع القراءة في المدارس والأحياء عبر بث الروح في المكتبات العمومية التي نسجت العنكبوت خيوطها على أبوابها.
والحقيقة أن تراجع نسبة القراءة ببلادنا من أخطر المواضيع التي يضرب عنها الكثيرون ' الطمّ'، بعد أن وجدوها من الجنة والناس نظرا لمعادلة بسيطة وهي أن الشعب الذي لا يقرأ شعب غير قادر على الحصول على المعلومة، وعندما يتم حرمان الشعب من المعلومة، فانه يكون غير قادر على تشكيل رأي عام ذو موقف وتصور خاص به، وبالتالي يبقى خارج دائرة محيطه فاسحا المجال أمام السياسيين الانتهازيين لكي يمارسوا انتهازيتهم واحتيالهم بلا حسيب ولا رقيب أو الخوف من أحد لمحاسبتهم، وهذا هو الظاهر الذي لا غبار عليه اليوم.
ولكي نفهم جيدا طبيعة هذه المعادلة التي تتحكم في توجيه المسار السياسي والتي يتخذ فيها بعض ممسؤولينا قرارات مصيرية لمستقبلهم الانتخابي والسياسي ، من المفيد جدا دائما العودة إلى تلك القاعدة الذهبية التي يعمل بها المغاربة منذ القدم وهي انك إذا أردت أن تحصل على زبائن، فما عليك سوى أن تخلق السوق، ومن هنا جاءت فكرة تشجيع العزوف عن القراءة وانتشار الجهل والأمية كدافع حتمي لتوفير الخزان الاحتياطي للأصوات خلال الانتخابات.
والحق يقال أن هناك طرق كثيرة لإبقاء الشعب في 'دار غفلون' ولعل أخطرها هو تشجيع العزوف عن القراءة والاهتمام بدعم الفرجة البصرية والثقافة الشفوية السطحية المشجعة للخمول الذهني . لكن هناك اليوم طرق أخرى اكثر حداثة يكاد مسؤولونا يطبقونها حرفيا على طريقة نظرية الفيلسوف واللساني الأمريكي 'ناعوم تشومسكي' لإبقاء الرأي العام في دار غفلون. وهذه النظرية تقول انه من أجل خلق شريحة اجتماعية بعيدة عن تدبير شؤونها اليومية لابد من نهج طريقة اسمها (مشكل، رد فعل، حل) وبمفهوم أدق انه لتكوين رأي عام 'مكلّخ' لا يعرف رأسه من رجليه، لابد من استحضار فن خلق المشاكل ثم اقتراح الحلول لها فيما بعد، حتى نحصل في أخر المطاف على مواطنين لا يطالبون إلا بتوفير الحاجيات الثانوية والبسيطة على حساب مطالب حقيقية ترهن مستقبله ومستقبل أجيال قادمة. وكمثال بسيط:
فاليوم يكاد الكل يجمع على أن هناك ارتفاعا صاروخيا في أسعار فواتير الماء والكهرباء،والدقيق ... وهنا عوض أن يتدخل مسؤولينا لفرض سلطتهم التي يخولها لهم القانون و'تجبيد' الأذنين للشركات التي تحلب جيوب المواطنين حلبا، لإجبارها على إعادة النظر في التسعيرة الحقيقية للاستهلاك، نجد أن هؤلاء المسؤولين يقفون موقف المتفرج.
طبعا سيقول قائل لماذا لا يريد مسؤولونا فك شفرة هذا الارتفاع في تسعيرة في بعض المواد الاستهلاكية ماداموا يتوفرون على كل الوسائل القانونية للتدخل المباشر لردع الشركات القائمة التي تقف وراء هذا الارتفاع ؟
ولعل الجواب نجده في نظرية 'تشومسكي' الذي يعطي لنا أمثلة عن أساليب خلق البلبلة في الأسعار من أجل الحصول على شريحة اجتماعية لا تطالب سوى بخفض الأسعار على حساب التضحية بالخدمات العمومية الأخرى. وما يحدث اليوم في في مختلف المدن المغربية وفي مدينة تاوريرت على وجه الخصوص يدعم هذه النظرية، فعوض أن يخرج المواطنون للمطالبة بالتحقيق في صفقات تفويت أراضي الدولة للخواص، والتحقيق في الترامي على الملك العام، وصفقات عمومية تعقد تحت الطاولة ... نراهم كيف يطالبون بمجرد كف أذى فواتير المكتب الوطني للماء والكهرباء عن جيوبهم.
إن هذه الطريقة الفعالة في تحويل الطبقات الشعبية عن مطالبها الحقيقية، يخفي أسلوبا جديدا في التعامل مع الرأي العام وكأنه طفل "يرضع" أصابعه وذلك عبر الرفع من مستوى البلادة والجهل وتحويل 'تاحيماريت' إلى مفخرة حقيقية.
وربما الحل الوحيد اليوم لاستعادة الرأي العام التاوريرتي لسلطته، وإرجاع أوضاعه إلى السكة الصحيحة، هو محاربة هذه البلادة وهذا الجهل وأوجهه المختلفة. ولعل أخطرها هو تراجع القراءة، ولهذا فان إعادة رد الاعتبار للكتاب هو الوسيلة الوحيدة التي بفضلها يستطيع الرأي العام التصدي لكل محاولات استثمار جهله وعدم اطلاعه عما يحدث في محيطه، لكي يشغلها بمشاكل هامشية عن مشاكل حقيقية
كل من يتابع بعض البرامج التحسيسية التي تطلقها القنوات الرسمية الفرنسية و فعاليات المجتمع المدني حول توزيع ملايين الكتب بالمجان على أبناء الجالية العربية المقيمة هناك كل سنة ، وهذه المبادرة التي تدخل ضمن مشروع إتمام دعم القراءة التي أطلقتها فرنسا منذ سنوات في جميع أنحاء البلاد، سيكتشف هول المفارقة واتساع الهوة الفكرية بيننا كمغاربة 'مفرنسين' بمناسبة أو بدونها، وبينهم كفرنسيين طبعا.
وربما الأهم من ذلك انه سيكتشف أن فرنسيا واحدا يقرأ حوالي 10 كتب في الأسبوع أي بمعدل كتاب ونصف في اليوم حسب - دراسة أجرتها مجلة فرنسية خاصة- ومع ذلك نجد أن الحكومة الفرنسية ومجتمعها المدني يضعون خططا جديدة لتشجيع ممارسة القراءة في البلاد. في المقابل سنجد نحن في بلادنا أننا قوم لا نقرأ إلا من رحم ربي طبعا، وإذا قرأنا فإننا نقرأ كتبا من قبيل لا شيء ومع ذلك فلا احد يتطرق لمثل هذه المواضيع الخطيرة وطرحها في البرلمان أو في ندوة من الندوات لمناقشتها.
وحتى نقرب الصورة اكثر دعونا ننطلق من مدينة تاوريرت لنقيسها على باقي المدن ونأخذ ذلك كنموذج مبسط نظرا للهوة الفكرية السحيقة التي تنتظرنا والتي تنذر بكارثة معرفية حقيقية نحن على مشارفها مستقبلا.
فالأكيد أننا عندما تحدثنا اكثر من مرة عن مشروع دعم القراءة في المدينة، وقلنا إن هذا المجال يجب أن يحظى بالأولوية فلم يكن ذلك من باب الترف الفكري أو الإعلامي. وإنما لوعينا التام بأن نهضة المدينة ونهضة الوطن وتقدمه الاقتصادي والسياسي يمرّان حتما عبر القضاء على آفة العزوف عن القراءة.
لأنه ومن خلال معاينة بسيطة للحضور المخجل للساكنة في مناسبات 'الكتاب' كالذي ينظم في مخلف المدن كل سنة، أو من خلال إحصاء الحضور اليومي للمهتمّين بالخزانات العامة يتضح أن مستويات الاهتمام بالكتاب وبقراءته على وجه التحديد وصل إلى حدود منخفضة تنذر بكارثة معرفية حقيقية.
ورغم تراجع مستويات القراءة سنة بعد أخرى فإن المسؤولين عن هذا القطاع لا يتوفرون إلى حد الآن على خطة واضحة لتشجيع القراءة في المدارس والأحياء عبر بث الروح في المكتبات العمومية التي نسجت العنكبوت خيوطها على أبوابها.
والحقيقة أن تراجع نسبة القراءة ببلادنا من أخطر المواضيع التي يضرب عنها الكثيرون ' الطمّ'، بعد أن وجدوها من الجنة والناس نظرا لمعادلة بسيطة وهي أن الشعب الذي لا يقرأ شعب غير قادر على الحصول على المعلومة، وعندما يتم حرمان الشعب من المعلومة، فانه يكون غير قادر على تشكيل رأي عام ذو موقف وتصور خاص به، وبالتالي يبقى خارج دائرة محيطه فاسحا المجال أمام السياسيين الانتهازيين لكي يمارسوا انتهازيتهم واحتيالهم بلا حسيب ولا رقيب أو الخوف من أحد لمحاسبتهم، وهذا هو الظاهر الذي لا غبار عليه اليوم.
ولكي نفهم جيدا طبيعة هذه المعادلة التي تتحكم في توجيه المسار السياسي والتي يتخذ فيها بعض ممسؤولينا قرارات مصيرية لمستقبلهم الانتخابي والسياسي ، من المفيد جدا دائما العودة إلى تلك القاعدة الذهبية التي يعمل بها المغاربة منذ القدم وهي انك إذا أردت أن تحصل على زبائن، فما عليك سوى أن تخلق السوق، ومن هنا جاءت فكرة تشجيع العزوف عن القراءة وانتشار الجهل والأمية كدافع حتمي لتوفير الخزان الاحتياطي للأصوات خلال الانتخابات.
والحق يقال أن هناك طرق كثيرة لإبقاء الشعب في 'دار غفلون' ولعل أخطرها هو تشجيع العزوف عن القراءة والاهتمام بدعم الفرجة البصرية والثقافة الشفوية السطحية المشجعة للخمول الذهني . لكن هناك اليوم طرق أخرى اكثر حداثة يكاد مسؤولونا يطبقونها حرفيا على طريقة نظرية الفيلسوف واللساني الأمريكي 'ناعوم تشومسكي' لإبقاء الرأي العام في دار غفلون. وهذه النظرية تقول انه من أجل خلق شريحة اجتماعية بعيدة عن تدبير شؤونها اليومية لابد من نهج طريقة اسمها (مشكل، رد فعل، حل) وبمفهوم أدق انه لتكوين رأي عام 'مكلّخ' لا يعرف رأسه من رجليه، لابد من استحضار فن خلق المشاكل ثم اقتراح الحلول لها فيما بعد، حتى نحصل في أخر المطاف على مواطنين لا يطالبون إلا بتوفير الحاجيات الثانوية والبسيطة على حساب مطالب حقيقية ترهن مستقبله ومستقبل أجيال قادمة. وكمثال بسيط:
فاليوم يكاد الكل يجمع على أن هناك ارتفاعا صاروخيا في أسعار فواتير الماء والكهرباء،والدقيق ... وهنا عوض أن يتدخل مسؤولينا لفرض سلطتهم التي يخولها لهم القانون و'تجبيد' الأذنين للشركات التي تحلب جيوب المواطنين حلبا، لإجبارها على إعادة النظر في التسعيرة الحقيقية للاستهلاك، نجد أن هؤلاء المسؤولين يقفون موقف المتفرج.
طبعا سيقول قائل لماذا لا يريد مسؤولونا فك شفرة هذا الارتفاع في تسعيرة في بعض المواد الاستهلاكية ماداموا يتوفرون على كل الوسائل القانونية للتدخل المباشر لردع الشركات القائمة التي تقف وراء هذا الارتفاع ؟
ولعل الجواب نجده في نظرية 'تشومسكي' الذي يعطي لنا أمثلة عن أساليب خلق البلبلة في الأسعار من أجل الحصول على شريحة اجتماعية لا تطالب سوى بخفض الأسعار على حساب التضحية بالخدمات العمومية الأخرى. وما يحدث اليوم في في مختلف المدن المغربية وفي مدينة تاوريرت على وجه الخصوص يدعم هذه النظرية، فعوض أن يخرج المواطنون للمطالبة بالتحقيق في صفقات تفويت أراضي الدولة للخواص، والتحقيق في الترامي على الملك العام، وصفقات عمومية تعقد تحت الطاولة ... نراهم كيف يطالبون بمجرد كف أذى فواتير المكتب الوطني للماء والكهرباء عن جيوبهم.
إن هذه الطريقة الفعالة في تحويل الطبقات الشعبية عن مطالبها الحقيقية، يخفي أسلوبا جديدا في التعامل مع الرأي العام وكأنه طفل "يرضع" أصابعه وذلك عبر الرفع من مستوى البلادة والجهل وتحويل 'تاحيماريت' إلى مفخرة حقيقية.
وربما الحل الوحيد اليوم لاستعادة الرأي العام التاوريرتي لسلطته، وإرجاع أوضاعه إلى السكة الصحيحة، هو محاربة هذه البلادة وهذا الجهل وأوجهه المختلفة. ولعل أخطرها هو تراجع القراءة، ولهذا فان إعادة رد الاعتبار للكتاب هو الوسيلة الوحيدة التي بفضلها يستطيع الرأي العام التصدي لكل محاولات استثمار جهله وعدم اطلاعه عما يحدث في محيطه، لكي يشغلها بمشاكل هامشية عن مشاكل حقيقية
