-->
وكالة الشرق للانباء | Acharq.net وكالة الشرق للانباء | Acharq.net
أخبار

آخر الأخبار

أخبار
أخبار
جاري التحميل ...
أخبار

الفضاء العام في ذهنية المغاربة .. العافية والفيضان والمخزن

*الشرق
"مغاربة يمتلكون بيوتا.. ولا يمتلكون وطنا".. مفهوم الفضاء العام في الذهنية الشعبية بالمغرب
لماذا تلجأ شرائح اجتماعية واسعة من المغاربة إلى تخريب المرافق العمومية والعبث بالمال العام عند تحملهم المسؤولية؟ هل يمكن أن نستنتج من استفحال ظاهرة النهب والسلب والتخريب والاقتلاع وتشتيت الأزبال مؤشرات قوية تدل على تصدّع عقد المواطنة بين العضو الاجتماعي وبين البلد الذي ينتمي إليه، مع العلم أن هذا البلد في حاجة ماسة إلى صرائم قوية وسواعد تتفانى في خدمته. إن ما نشاهده من سلوكيات سلبية، أحيانا بالتخريب والنهب في ممتلكات الوطن، يدل على أن المغاربة يمتلكون منازل... لكن لا يمتلكون وطنا!؟

قبل أن نجيب عن هذا السؤال المتعلق بعلاقة المغربي بالفضاء العام، وكيف يتَمثّلُه في ذهنه، نطرح بعض الأسئلة حول ماهية العلاقة بين العضو الاجتماعي وبين البلد الذي ينتمي إليه: ما هي الخطاطات التي نشأ بها في بيئته الاجتماعية؟ هل تَبَنْيَنَ في سياقات مؤسساتية علّمته مفهوم الانتماء والمواطنة والتفاني في خدمة الوطن؟ أين استبطن هذا النوع من الخطاب الإيديولوجي؟ هل استبطنه في حياته الجندية التي توقف العمل بها منذ عهد الملك السابق؟ هل استبطن هذا الخطاب في الجوامع والمدارس وعبر وسائل الإعلام والوصلات الإشهارية؟ ما نوع العقد الذي تُروّج له الدولة في تعاقدها مع المواطن المغربي؟ لماذا تغيب مثل هذه الأسئلة في وسائل الإعلام؟ وهنا تتبادر إلى الأذهان أسئلة مبدئية حول دور الإعلام في نشر قيم المواطنة؟

ما نلاحظه اليوم على أرض الواقع هو انتشار عصبيات عشائرية وإسلاموية، بالإضافة إلى فئوية قطاعية تطمح إلى الحفاظ على مصالح مشتركة. أما فكرة الانتماء إلى وطن بالمعنى المتخيل لتاريخ وجغرافيا وثقافة وقيم وتقاليد وطقوس وعناصر تحدد الهوية الثقافية المشتركة، فتظل مفهوما عائما فضفاضا يحتاج تعريفا دقيقا، وتقعيدا إيديولوجيا واضحا يخترق المنظومة التربوية والإعلامية على السواء؛ لأن ما يحصل الآن هو اقتصار مفهوم الانتماء إلى الوطن على الولاء للحاكم، أو الارتباط بالأرض، أو الدفاع عن العشيرة، وحبذا لو قام البحث السوسيولوجي بتحديد مفاهيم الانتماء عند المغاربة بجميع شرائحهم الاجتماعية، هل عقد المواطنة هو عقد اقتصادي محض؟ هل هو ارتباط بالأرض، كما هو حاصل للعديد من مغاربة المهجر الذين يفضّلون العيش في الغربة والدفن في أرض الوطن، إذ منهم من يؤدي ثمن ترحيل جثته قبل مماته، حتى تطمئن نفسه أن الرفات عائد إلى أرض الوطن؟ هل الانتماء إلى الوطن ارتباط بالدم والتحام بالعشيرة؟ هل الانتماء إلى الوطن ارتباط بالجماعة أو الطائفة الدينية؟

أمام ضبابية مفهوم الانتماء إلى الوطن، وعدم تبسيط معانيه ودلالاته الإيديولوجية، حتى يتمكن العضو الاجتماعي من فهم ذاته وموقعه داخل المجتمع، يضطر هذا الأخير إلى الاستناد إلى موارد ثقافية شعبية لفهم واقع انتمائه. وفي هذا الصدد، ما قد تزوده الثقافة المحلية به هو انتماءات ضيقة تقتصر على العشيرة أو الجماعة أو الولاء للملك، كلها عبارة عن عصبيات لا تشكل مفهوم الانتماء للوطن بمعانيه الحديثة.

في ظل أزمة الهوية الاجتماعية التي يعانيها العضو الاجتماعي بالمغرب، نتساءل عن علاقته بالفضاء العام، والملكية المشتركة التي لا يمتلكها، ولكن يستغلها بشراكة مع باقي الأعضاء الاجتماعيين؟

في إطلالة سريعة على مقاصد الفضاء العام، هو ذلك الفضاء الاجتماعي مثل الكورنيش والحدائق والشواطئ والأسواق وساحة المدينة، تلك الفضاءات المفتوحة في وجه جميع الأعضاء الاجتماعيين، بغض النظر عن الجنس أو العرق، أو السن، أو المستوى الاجتماعي - الاقتصادي، هذه أماكن عامة تشكل جزءا من الحياة الحضرية، وتقدم الإثارة والفرجة والاستجمام والاحتفالات العامة، حيث تعتبر فرصة للقاء الأصدقاء ومشاهدة العالم، ويوجد الناس جنبا إلى جنب في المكان والزمان؛ وهو ما يسهل التواصل الاجتماعي ويمنح حرية الوجود وتعلم العادات والسلوك الاجتماعي، إذ يعدّ الفضاء العام المدرسة الأولى التي تؤثر في سلوكيات الأطفال، وتعمل على تثبيت الخطاطات الاجتماعية المشتركة، وهو المكان الذي يضم أنشطة التواصل البشري والاجتماعي، ويضمن التفاعل في المجال العام.

إن الأماكن العامة الناجحة هي التي تفسح المجال لمشاركة الجميع، ويمكن الوصول إليها بسهولة، حيث يستطيع الناس الخروج للمشاركة فيها بهوية جماعية، قد تطبعها الحماسة تارة والصمت تارة أخرى، تلك عبارة عن مساحات يمكن لأي شخص قضاء بعض الوقت فيها مجانا، وينبني ميثاق الفضاء العام على حرية النشاط الذي يمكن لأي شخص أن يقوم به ابتداء من الأنشطة العفوية، والاحتجاجات، والمهرجانات، والاحتفالات، والترفيه والتجارة إلى التسكع البطّال، وتُسجّل هذه الأماكن أقراص الذاكرة الشعبية المشتركة التي تحتفظ للمجتمع بموارد التدفق العاطفي والإحساس بالانتماء إلى المدينة أو الإقليم.

هل نحن واعون بهذه الحمولة الرمزية وفرصة التواصل التي يمنحنا إياها الفضاء العام؟ لماذا يجهز بعضنا على تخريب مرافقه الخدمية بدءاً من المدارس، والجامعات والمستشفيات والملاعب والحدائق إلى غرف تفتيش مجاري الصرف الصحي؟ أليس هذا ملكا مشتركا؟ أليست هناك ذاكرة جماعية تحثنا على الحفاظ على هذا الملك الجماعي؟ لماذا ننتقم من أنفسنا، وندمر ممتلكاتنا؟ هل فعلا نحن نحس بأن هذا الوطن هو ملك لنا؟

في إطار البحث الأولي في هذا الموضوع، والذي لا يزال مشروعا للدراسة، تبين لنا أن الذهنية الشعبية تُميز بين أربعة أنواع رئيسة من الفضاءات: هناك الفضاء الخاص المتمثل في الملكية الخاصة وشبه الخاصة التي تندرج في إطار نظام الإرث والأراضي السلالية وأراضي الجموع؛ وهناك الفضاء المقدس الذي يضم الجوامع والمقابر والمراقد والأضرحة؛ وهناك الفضاء الطبيعي أو ما يسمى "بالخلا"، وهذه فضاءات خضراء أو مهجورة في أراض وأماكن يُعتقد بأن لا أحد يمتلكها. ماعدا هذه الأمكنة، يبقى الفضاء الرابع هو الفضاء العام الذي نحن بصدد دراسته، وهو ما نصطلح عليه اسم "الفضاء المخزني"، نسبة إلى "بلاد المخزن"، أي تلك الأراضي التي تقع تحت سيطرته، في إطار الثنائية المعروفة تاريخيا "ببلاد المخزن" و"بلاد السيبا" التي ظلت عصية على تحكّمه، ونظرا كذلك لأن السلطات المحلية هي المنوط بها حفظ سلامة المواطنين وتنظيم حركاتهم ونشاطاتهم بتلك الفضاءات العمومية، وحتى نهاية القرن المنصرم، وأجهزة المخزن بجميع تلويناتها تعمل على تثبيت الأمن بالمستشفيات والجامعات، وتراقب تجمهر المواطنين، وتحارب الشغب وتخريب الممتلكات العامة؛ لكن هل هذا هو السبب فعلا في ارتباط الخدمات العامة بجهاز المخزن في الذهنية الشعبية؟ لماذا يظن المغربي البسيط أن غرف تفتيش مجاري الصرف الصحي هي ملك للمخزن، وبأن الرصيف هو كذلك ملك للمخزن، وبأن المستشفى والمدرسة هي الأخرى ملك للمخزن؟ هل الدافع وراء انتساب المرفق العام إلى جهاز المخزن يقتصر فقط على وجود عناصر من الأمن أو الشرطة لحفظ النظام بهذه المؤسسات أم يتعلق الأمر بجذور وامتدادات تاريخية عميقة لممارسة السلطة في المغرب؟ كيف استحصفت الذهنية الشعبية مفهوم حماية المخزن للفضاء العام عبر التاريخ؟

اعتبر ميشو بيلير مؤسسة المخزن إحدى الدعامات الأساسية لبناء الحكم في المغرب، وتأكد تاريخيا أن المخزن كان يرعى الفوضى الاجتماعية ويستغلها لصالحه، كما يقوم بتأجيج العداءات والحروب والنزاعات بين القبائل لتعزيز وظيفته كحكم بينها. وبفضل تموقعه فوق المجتمع بقدرة خارقة، استطاع تشريف خدّامه، والزج بمعارضيه في مزابل النسيان. وبالرغم من تفنيد هذه الأطروحة الكولونيالية من لدن مجموعة من المؤرخين المغاربة أمثال عبد الله العروي، يشهد التاريخ عموما للمؤسسة المخزنية بدور تاريخي إيجابي في حل النزاعات وإخماد الفتن القبلية، واستتباب الأمن، والحفاظ على الوحدة الترابية وضمان استقرار المجتمع عبر إخضاع القبائل للالتفاف حول المؤسسة السلطانية ذات الشرعية التاريخية والدينية على السواء. وهكذا، يظل هذا الجهاز، في رأينا، سلطة متجذرة في تاريخ المغرب. كما يرجع له الفضل في بناء مؤسسات الدولة الحديثة ودمقرطة الحياة السياسية، ولو بشكل متدرج بطيء.

لقد نُحِتت شعبية المؤسسة المخزنية في الذاكرة الشعبية، حيث صوّرته تارة قادرا على خلق المعجزات والتحكم في البر والجو، يمتلك القدرة على الاختراق والانتشار، وهو الوحيد القادر على الحفاظ على أمن البلد واستقراره، وتارة أخرى خالته مركزا لتوزيع الإنعامات والهبات والصدقات، فحتى الخدمات العمومية التي قدمتها الإدارة المخزنية لفائدة السكان، تخيلتها الذهنية الشعبية إكراما وإحسانا وسخاء من مؤسسة متأصلة شريفة في المجتمع تختزن الثروات والخيرات، يحتل في مجالها السلطان موقع المركز، هذا بالرغم من اختلاف المرجعيات بين الاثنين، فحسب الطوزي، يعتبر المخزن مفهوما دنيويا دون حمولة دينية، بينما يتمتع السلطان بالصفة الأخلاقية السامية التي تجعله مقدسا فوق كل اعتبار أو إسقاط سلبي أو إيجابي على السواء.

حاكت الذهنية الشعبية العديد من الأمثلة حول القوة القاهرة للمؤسسة المخزنية قصد إرهاب الخصوم، وتكريس هيبة المخزن في الأوساط الشعبية، فقيل بأن المخزن كاف لنفسه، متأصل وشريف، وقوة خارقة لا تقهر. كما تناسلت الحكايات والأقوال المأثورة حول قوته الناعمة والرادعة على السواء، إذ يمكن إجمالها في ما يلي:

- والله وخطانا المخزن غير إلى كلينا بعضياتنا

- ثلاثة ما تي تغلبوش، العافية والفيضان والمخزن

يتبين للقارئ من خلال هذه الأقوال المأثورة بأن الذهنية الشعبية تختزن تصورات نمطية حول القوة الخارقة للمخزن، حيث تشبّهه بالقوى الطبيعية كالنار والفيضانات في اجتياحها للمناطق، وتعتبره سلطة خارقة لا تقهر. هكذا، تضعه في موقع فوق المؤسسات العادية للدولة، يهابه العضو الاجتماعي ويخشاه، معتمدا مجموعة من التصورات النمطية الجاهزة حول هذه المؤسسة ليس فقط لكونها تمتلك الفضاءات العامة وتشرف على خدماتها، بل لكونها قادرة على اختراق الفضاءات الخاصة والتحكم في حركة الأفراد والجماعات. إذا كان هذا هو التصور الشعبي للفضاء العام وملكيته من لدن المؤسسة المخزنية، كيف يستطيع العضو الاجتماعي تحدّي هذه السلطة الخارقة والعبث بممتلكاتها اليوم؟

هنا يكمن جوهر المعضلة، حيث إن المؤسسة المخزنية على أرض الواقع ليست لها الإمكانات البشرية واللوجيستيك لكي تنتشر في جميع الأمكنة لحمايتها من التخريب، ولا تستطيع أن تتحكم تحكما منتظما في حركة المواطنين. كما أن القمع المخزني بدأ في تراجع ملحوظ أمام الاحتجاجات الشعبية المتواصلة؛ وهو ما يثير الكثير من الأسئلة عن مصير الفضاء العام في ظل الاحتقان المتصاعد وتنامي الحقد الاجتماعي ضمن فئة الشباب ضد مؤسسة المخزن. لا أحد منا يستطيع أن ينكر الرغبة الشعبية في الانتقام عند حدوث إحساس بالحڴرة، سواء عندما يقوم رجل سلطة باستعراض قوته ومسرحتها، أو عندما يتم تهميش فئة اجتماعية تعاني البؤس والحرمان.

نحن نواجه اليوم مأزقا وجوديا، إذ إن الكثير منا لا يشعر بأن مختلف المرافق العامة علاوة على المال العام هي ملك لهم؛ فالزقاق والحديقة والمستشفى والمدرسة، كلها ممتلكات تنسب إلى المؤسسة المخزنية، (مدرسة المخزن/ سبيطار المخزن/ خرّاجة المخزن).. وهكذا، حين تغفل أعين المخزن عن حراستها، تُنهب وتُخرَّب، لذا تعتبر الآن حراسة الملك العام من الأولويات الكبرى، ذلك لأن الذهنية الشعبية لا تؤمن بملك غير محروس. وينشأ العضو الاجتماعي على خطاطة حراسة الملك العام من لدن أجهزة المخزن، إذ في حال غياب الحارس المخزني، قد يمسي الملك العام في خطر النهب والتخريب، وهذا ما يحدث حتى لملك الغير؛ فسيارة أو منزل بدون حراسة قد يتعرضان للسرقة، ولحماية الممتلكات والمرافق، تستدعى قوات الأمن والمخزن لحمايتها، ذلك لأن أغلبية المجتمع لم يستبطن بعد مفهوم الملك العام بقدر ما يخشى فزاعات السلطة المخزنية ويهابها، وعلى هذا النموذج الاجتماعي ينطبق القول بأنه "حين تغيب الهرة يلعب الفئران"، فقط انظر كيف يقف الشرطي منتصبا قرب إشارة المرور التي تكفي جدلا لتنظيم السير، وهو يتربص بالمخالفين، لكي تعلم جيدا بأننا لم نستبطن بعد المبادئ والأخلاق، وبأن المنظومة القيمية في ثقافتنا قشرة فوقية تبنى على الخوف من العار والفضيحة والعقاب.

لا يجب أن ننسى، في هذا السياق، بأن العضو الاجتماعي يتلقى نشأة بمظاهر قيمية خارجية (حشومة) غير مستبطنة تعتمد على الخوف من فزاعات السلطة والمؤسسة المخزنية، حيث تبدأ تنشئة الهيمنة هذه بتخويف الأطفال بطرق شتى، نذكر منها ذلك الكائن الأسطوري "بوعّو" الذي يسكن خيال الأطفال، لتنتهي برجال الشرطة وغيرهم من أفراد الأمن، ولا داعي لكي نعود إلى القول المأثور: " والله وخطانا المخزن، غير لا كلينا بعضياتنا!"

أليست هذه خطاطة الحماية المترسخة تاريخيا في ذهنية الشعب؟ ولمِا لا، والمجتمع المغربي أيفعَ في أكناف الحماية منذ قرون، حيث انتقل من حماية المؤسسة المخزنية وحماية السلطان إلى ظل الحماية الفرنسية، ثم استأنس بسلوك الحماية ومعانيها، واعتبرها جزءا من هويته التاريخية.

إن مفهوم الحماية خطاطة اجتماعية وسلوك ينشأ عليه الفرد في العائلة المغربية بين عشيرته وبين عائلته الصغرى؛ فالأب هو الرمز الجوهري للحماية، إذ في المجتمعات الأمازيغية مثلا، يظل الزوج الذكر "أفروخا"، أي غير متحمل لمسؤولية القرار حتى يتوفى الأب، عندئذ يصبح الابن "أركازا"، يتحمل المسؤولية في إدارة شؤون العائلة والعشيرة (انظر حسن رشيق في دراساته حول مجتمعات الأطلس).

ولم تقف الحماية عند هذا الحد؛ بل انتقلت بوصفها خطاطة ثقافية إلى أسلوب سياسي في الحكم خلال الأزمنة الماضية، حيث دأب السلاطين المغاربة على توفير الحماية للقبائل.

وحسب مونتان، يلجأ السلطان إلى رفع حمايته عن قبيلة متمردة في إطار ما عُرف "بالسّخطة السلطانية". وتوصف السّخطة بأنها إعلان ضمني باستباحة مال القبائل المتمردة ومواردها، إذ تصبح عرضة للنهب والسبي والتخريب. لهذا، ظل المخزن المؤسسة القادرة على حماية القبائل، والضامنة لاستقرارها، وحماية الفضاء العام من لدن المؤسسة المخزنية ما هو إلا امتداد تاريخي وواقع معيش تتمسك به الذهنية الشعبية، وتستبطن معانيه وحمولته الرمزية التي أنبتها تاريخ الحماية المخزنية في المغرب.

مع الأسف، ما زالت التنشئة في المغرب بعيدة عن استبطان مفهوم الملك المشترك واحترامه حتى يقوم الشخص منا بحمايته دون حاجة إلى حراسة، وكأنه بصدد حماية ملكه الخاص، فيعتبره ملكا للشعب وليس ملكا للسلطة، أي ليس إلا امتدادا للفضاء الخاص الذي يجب أن يحرص المرء على حمايته، فيخاف عليه، ويرعاه، ويتألم لأي تخريب يتعرض له.

ومن هذا المنظور دائما، أليست مراقبة المال العام ومحاسبة المفسدين مسؤولية المواطن الذي يجب أن يعتبر هذا المال جزءا مقتطعا من دخله، وعليه يقع واجب السهر والمحافظة عليه بكل أمانة؟

إن السؤال الملح اليوم هو هل من المعقول أن نختزل تاريخ وممتلكات هذا الوطن في مؤسسة سلطوية؟ هل الوطن ملك للمخزن أم للشعب؟ إن المخزن هو نفسه ملك للشعب، مهما حيكت عنه من خرافات وأساطير تجعله قوة خارقة فوق المجتمع. لقد حان الوقت أن يتحمل المسؤولون في السياسة والإعلام والمنظومة التربوية عبء تصحيح مفهوم المواطنة لدى الناشئة، وتكثيف الإعلانات الإشهارية والفيديوهات القصيرة الهادفة وغيرها من الابتكارات الثقافية لتغيير نظرة العضو الاجتماعي للفضاء العام ومفهوم الانتماء إلى الوطن.

فعلا، لقد حان الوقت لتحديد معاني الانتماء إلى هذا الوطن، ووضعها في أشكال ثقافية ملموسة تستطيع النفاذ إلى ذهنية البسطاء من هذا الشعب، أتظنون أن الشعور بالولاء للمؤسسات الحاكمة كاف للحفاظ على الأماكن العامة وسلامتها من النهب والتخريب؟ هل الوطن حكومة ومؤسسة مخزنية أم أشياء يمتلكها الشعب ويستمد منها قوته إن لم نقل علّته في الوجود...ما معنى ما يحدث في أقطار عربية أخرى، حيث إذا فشلت حكومة في إدارة الشأن العام، يقتلع الشعب الأرصفة والأشجار والكراسي، والإكسسوارات الخاصة بالمستشفيات والمدارس، ثم يحطم الجدران ويكسر النوافذ؟ هل في حال الشعور بالحڴرة وعدم عدالة توزيع الخدمات الاجتماعية والاقتصادية، نكفر، ونفجر، وندمر مرافقنا؟ نرددها فقط للتاريخ: "تتغير الحكومات ولا تتغير الأوطان!" وهذا ما عبر عنه كذلك روبرت فيسك في تعليقه على ما جاء في تقرير الأمم المتحدة حول التنمية البشرية في العالم العربي سنة 2009.

نحن الآن أيها الإخوة أمام تحدّ كبير للحفاظ على كرامة المواطن بمنحه حقوق اجتماعية وسياسية واقتصادية كاملة مع محاسبته طبعا على مسؤوليته في الانتماء إلى هذا الوطن، إذ عوض أن نلقي بقوة شبابية عاملة في أمواج النسيان، يجب علينا أن نخطط ونبرمج ونحارب الصدف لكي نصنع التاريخ؛ لأن الشعب الذي يقدم شبابه قرباناً لاقتصاد السوق والعولمة، ولا يتضامن لإنقاذ الوطن، فهو لا يستحق ذلك الوطن.
*هيسبريس / ذ.محمد معروف أستاذ بجامعة أبي شعيب الدكالي/ الجديدة
 

التعليقات

';


جميع الحقوق محفوظة

وكالة الشرق للانباء | Acharq.net

2016